معرفة عثرات المصنفين والافادة منها ، من أنجع الوسائل التي تُرسِّخ العلم في صدر طالب الحق . والمقصود بالعثرات : أسباب الخطأ والزلل في المسائل ، وكيفية الوهم في الرواية والدراية.

ومؤلفات العلماء في الردود قديما كانت تُحرَّر على أن الاستدراك قيمة علمية لا تنضب . 
 
ومن المصنفات المهمة التي يتداولها العلماء ويفيدون منها منذ مئات السنين : كتاب: ” السير والمغازي لابن إسحاق :” محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي ” ( ت : 151هـ ) رحمه الله تعالى ، المعروف عند المؤرِّخين ، بصاحب السيرة النبوية ، وقد رأى “أنس ابن مالك ” رضي الله عنه (ت: 93 هـ )، وسعيد بن المسيب (ت: 94 هـ ) رحمه الله تعالى .
 
طلب العلم بالمدينة ، أخذ عن كثير من العلماء منهم : أبوه إسحاق ، ومحمد بن السائب الكلبي ، وصالح بن كيسان ، ومكحول، والزهري، وغيرهم .
رحل من المدينة، فأتى الجزيرة والكوفة والري وبغداد ، وقدم على أبي جعفر المنصور( ت:158هـ ) بالحيرة فكتب له المغازي . وكان قد رحل قبل ذلك الى مصر، وزار الاسكندرية سنة ( 115 هـ) ، وروى عن جماعة من أهل مصر .
ومن أشهر مؤلفاته ( السير والمغازي ) .
توفي في بغداد ، ودفن بمقبرة الخيزران أُم الرشيد . وكان جدُّه يسار من سبي ” عين التمر” . 
 
والمصنفات في السيرة النبوية قديما كثيرة ، وأوَّل من صنف في السيرة النبوية هـو : عـروة ابـن الـزبـير بن العوام (ت :92 هـ) وقيل : أبان بن عثمان بن عفان (ت: 105) هـ ، ثم وهب بن منبِّه اليمني (ت: 110 هـ), ثم عاصم بن عمر بن قتادة (ت: 120 هـ) , ثم شرحبيل بن سعد الشامي (ت :123 هـ), ثم عبد اللّه بن أبي بكر بن حزم القاضي (ت :135 هـ) , ثم موسى بن عقبة (ت :141 هـ), ثم معمر بن راشد (ت : 150 هـ), ثم محمد بن اسحاق بن يسار المدني ( ت: 151هـ )، ثم راويته زياد بن عبد الملك البكائي الكوفي العامري (ت :183 ه), ثم محمد بن عمر بن الواقدي (ت : 207 ه), ثم عبد الملك بن هشام الحميري (ت : 213 ه) الذي نقَّح سيرة إبن اسحاق وهذَّبها في كتابه ” السيرة النبوية ” المشهورة بسيرة ابن هشام . 
 
ومصنفات هؤلاء الأئمة – رحمهم الله تعالى – لم تُحفظ سوى مغازي ابن إسحاق التي هذَّبها ابن هشام . 
وقراءة السيرة النبوية دون تمحيص صحيح رواياتها من سقيمها من الأمور الملاحظة على كثير من طلبة العلم . وسبب ذلك قصد العناية بالمروي ونبذ أصل الرواية .
 
والأكمل لمن سمت همته : تتبُّع روايات السير والمغازي ووزنها بميزان ما صح من الروايات في كتب السنة النبوية . وفي هذا فائدتان : الأولى : معرفة الثابت من صحيح السيرة النبوية ، الثانية : معرفة المواضع التي لم يُنقل فيها اسناد ثابت في كتب السنة النبوية أو في صحيح الأخبار . 
 
وبيان العثرات يُعدّ من مذاكرة العلم الذي ندب اليه العلماء ، وكل يؤخذ من قوله ويُرد الا المعصوم صلى الله عليه وسلم . 
 
ويمكن اجمال عثرات إبن إسحاق في السيرة في النقاط الآتية :
1-الاسهاب في الرواية
2-قلة الضبط 
3-رواية الغرائب .
روى أهل التراجم أن الامام مالك بن أنس (ت: 179هـ ) رحمه الله تعالى، إمام دار أهل الهجرة كان يقدح في توثيق ابن إسحاق وعدالته ، ومثله هشام بن عروة ابن الزبير(ت: 146هـ )رحمه الله تعالى ، اضافة الى تهم التدليس، والتشيع ،والقول بالقدر، وانتحال الشعر، والخطأ في الأنساب ،والرواية عن المجهولين .
قال الذهبي(ت: 748هـ ) رحمه الله تعالى : ” كان في العلم بحرا عُجاجا ، ولكنه ليس بالمجوِّد كما ينبغي ” ، وقال ايضا : ” يروي الغرائب ، ويحدِّث عن المجهولين بأحاديث باطلة ” . أما تشيُّعه فيبدو أنه لم يكن له أثر في كتابته للسيرة مما يدل على ضعف هذا الاتهام . أو ربما يكون تشيُّعه من جنس ما أثر عن بعض السلف من التشيع الذي لا يحمل صاحبه على التزوير والكذب . أما رميه بالقدر، فإن بعض العلماء ينفيه عنه ، قال “محمد بن عبد الله بن نمير” : (ت: 234هـ ): رحمه الله تعالى : ” كان ابن اسحاق يُرمى بالقدر وكان أبعد الناس منه ” . والله أعلم .
وقد ردَّ الخطيب البغدادي (ت: 463هـ ) وابن سيِّد الناس (ت: 734هـ ) رحمهما الله تعالى على هذه التهم وفنداها . وهذه التُّهم إن صح بعضها وهو يسير ، فقد استشهد البخاري (ت: 256هـ ) رحمه الله تعالى برواية إبن اسحاق في مواضع من صحيحه ، وأخرج له مسلم( ت: 261هـ ) رحمه الله تعالى في المتابعات .
وقد أنصف ابن هشام رحمه الله تعالى عندما لخص سيرة ابن سحاق، وألمح الى أن في سيرة ابن إسحاق ما لا يستحق الرواية أو التحديث ، إما لضعفها أو لقبحها أو لعدم ثبوتها .
 
وقد جرَّدتُ الروايات التي رواها ابن إسحاق في مغازيه التي رواها بدون اسناد، أو بمراسيل ، ولم تثبت من الناحية الحديثية ، وإن كان لها أصل في الروايات التاريخية :
1-رواية المرأة التي دعت عبد الله بن عبد المطلب إلى نفسها، ومراودة عبد الله لها بعد زواجه من آمنة . رواها ابن اسحاق باسناد مرسل .
2-رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول ” وأنذر عشيرتك الأقربين”( الشعراء : 214 ): من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة وخليفتي في أهلي ؟ . رواها ابن اسحاق باسناد فيه عبد الغفار بن القاسم ، وهو شيعي كذاب .
3-رواية أن حمزة رضي الله، أسلم في وقت اشتدت فيه جرأة قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بتفصيل مبالغ فيه . رواها ابن اسحاق باسناد مرسل ، وفي سنده مبهم .
4-رواية أن قريش عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا الهه سنة . رواها ابن اسحاق باسناد منقطع .
5-رواية أن أبا جهل اعترف بأن المنافسة بين عشيرته وبين عبد مناف هي التي دفعت بني عبد مناف الى ادِّعاء النبوة ابتغاء الشرف عليهم . رواها ابن اسحاق باسناد منقطع .
6-رواية أن عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ، عرضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الرئاسة والمال والزواج والتطبُّب . رواها ابن اسحاق وفي اسنادها محمد بن ابي محمد وهو مجهول .
7-رواية دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على ثقيف بقول : ” اللهم إني أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس ” ولقاء الرسول بعدَّاس . رواها ابن اسحاق بسند مرسل . أما قصة عداس فساقها ابن اسحاق بدون اسناد .
8-رواية نزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخيمة أم معبد بقُديد ، طالبين القِرى فاعتذرت لهم .أخرجها ابن إسحاق باسناد معضل من رواية يونس بن بكير عنه . ولم تصح هذه القصة الا من رواية قيس بن النعمان رضي الله عنه .
9- رواية بروك ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة مهاجِرا ، عند باب أبي ايوب . رواها ابن اسحاق بدون اسناد .
10-رواية ردّ الرسول صلى الله عليه وسلم لصغار السِّن، ممن هم أبناء أربع عشرة سنة ، سوى رافع بن خديج يوم أحد . رواها ابن اسحاق بدون اسناد .
11-رواية ردَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لعين قتادة بن النعمان حين اصيبت يوم احد . رواها ابن إسحاق من مرسل شيخه عاصم بن عمر بن قتادة .
12-رواية قول أبي سفيان : ما رأيتُ من الناس أحدا يحبُّ أحدا كحب أصحاب محمد محمدا . رواها ابن اسحاق من مرسل شيخه عاصم بن عمر بن قتادة .
13-رواية نزول قول الله تعالى : ” قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا..” ( ال عمران : 64) في وفد نجران .
رواها ابن اسحاق بدون اسناد . ولم يصح نزولها في وفد نجران .
14-رواية ارسال الرسول صلى الله عليه وسلم كتابا الى النجاشي – غير نجاشي الحبشة . رواها ابن اسحاق بدون اسناد . وفي صحيح مسلم نفي لهذه الرواية ، حديث رقم : ( 1774) .
15-رواية تعرُّف الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين على اخته من الرضاعة : الشيماء، من عضَّة عضَّها لها أيام رضاعه في بني سعد . رواها ابن اسحاق عن بعض بني سعد . وهي رواية عن مجهول .
 
هذه هي الروايات التي وقفتُ على عدم ثبوتها على اصطلاح المحدثين ، أثناء مطالعتي لمغازي ابن إسحاق رحمه الله تعالى . وهي على جادة معرفة الاختلاف ، الذي من لا يعرفه لم يشم رائحة العلم ، كما قال العلماء. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
 
المصادر :
1-الجرح والتعديل 7/191 .
2- تاريخ بغداد 1/214 . 
3-عيون الأثر 1/7 . 
4-تذكره الحفاظ 1/172 .
5- سير أعلام النبلاء 7/33 . 
6-ميزان الاعتدال 3/468 . 
7- تهذيب التهذيب 9/38 . 
8-معجم الادباء 6/399 . 
9- طبقات خليفة بن خياط / ص/ 271 . 
10- معجم البلدان 4/176 وفيه : عين التمر بلده قريبة من الأنبار غربي الكوفة … افتتحها المسلمون في أيام أبي بكر على يد خالد بن الوليد في سنة (12 هـ )، وكان فتحها عنوة ، فسبى نساءها وقتل رجالها .
11- السير والمغازي / لابن اسحاق / طبعة دار الفكر .
12- تهذيب التهذيب / الحافظ ابن حجر / طبعة حيدر آباد .
13- المراسيل / ابو داود / طبعة محمد علي صبيح .
14-السيرة النبوية / أكرم ضياء العمري .
15- فقه السيرة / للبوطي / المقدمة / الطبعة السابعة / وفيها خلط عجيب في فهم السيرة النبوية ، وحقد غريب على أهل السنة المتبعين للدليل بفهم سلف الأمة .
 
أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة